" تتزوجيني ؟؟ "
أروى حملقت بي لبرهة ، ثم ابتسمت و نظرت إلى الأرض بخجل !
العرق صار يتصبب مني و ملابسي تحترق من حرارة جسدي.. أما لساني فانعقد تماما !
أي جنون هذا ؟؟
ظللنا واقفين فترة هكذا ، أنا لا أجرؤ على قول شيء و لا الانصراف ، و هي لا ترفع عينيها عن الأرض...
نفحات الهواء الباردة أخذت تصافح جسدي و تطفئ اشتعاله.. و هبّت على الوشاح الذي تلفه أروى حول رأسها فتطايرت أطرافه.. كاشفة عن خصلات ذهبية ملساء انطلقت تتراقص مع النسيم ..
غضضتُ بصري بسرعة ، و استدرت جانبا و قلت :
" أنا آسف "
" لم ؟؟ "
قالتها بتعجب ، فكساني تعجبها تعجبا !
أعدت النظر نحوها فوجدتها واقفة في مكانها و قد ضبطت الوشاح حول رأسها بإحكام...
و لا تزال تبتسم بخجل !
تشجعت حينها و قلت :
" ألا تمانعين من الزواج من رجل مثلي ؟ "
قالت دون أن تنظر إلي :
" مثلك .. يعني ماذا ؟؟ "
قلت :
" فقير.. مشرد.. خريج سجون.. عاطل ! "
قالت :
" لكنك .. رجل نبيل يا وليد "
ثم ألقت علي ّ نظرة خجولة ... و انصرفت مسرعة !
في صباح اليوم التالي ، كنا أنا و العم إلياس ننظم أغصان بعض الأشجار...و كان الموضوع يلعب برأسي منذ الأمس... و كنت أحاول التقاط أي خيط من الكلام لفتحه أمام العجوز ..
و ربما هو لاحظ ارتباكي إلا أنه لم يعلّق..
قلت :
" أليس لديكم أقارب آخرون يا عمي ؟ "
قال :
" هنا ؟ لا يوجد . إنني و أختي كما تعلم من خارج البلدة و لا أهل لنا هنا . نديم رحمه الله كان يقطن المدينة الساحلية هو و عائلته قبل استقراره هنا في هذه المدينة قبل زمن طويل .. و هو الآخر لم يكن لديه أقارب كثر "
و المدينة الساحلية هي مدينتي الأم
قلت :
" و ماذا عنك ؟ ألم يكن لديك زوجة و أبناء ؟ "
قال :
" زوجة رحمها الله. لم أرزق الأبناء بقضاء من الله. الحمد لله "
ثم أضاف :
" لذلك أحب ابنة أختي حبا جما .. و أسأل الله أن يرزقها زوجا صالحا أطمئن إلى تركها معه بعد فنائي "
قلت بسرعة :
" أطال الله في عمرك عمّاه "
قال :
" فقط إلى أن أزوّجها و أرتاح "
و غمز إلي بنظرة ذات معنى !
احمر وجهي خجلا.. فصمت ، أما هو.. فنظر بعيدا مفكرا و قال :
" أنا قلق عليها و على مستقبلها .. إنها فتاة بلا سند.. أريد أن أزوجها بسرعة لرجل جدير بالثقة.. أأتمنه عليها.. "
و نظر نحوي.... يقصدني !
قلت متلعثما :
" أأ أحقا لا تمانع من زواجها من.. من .. "
أتم العم الجملة :
" منك يا وليد ؟ مطلقا.. فأنت رجل خلوق و مهذّب . بارك الله فيك "
قلت مترددا :
" لكنني .. كما تعرف "
قاطعني :
" لا يهم ، فهاهي المزرعة أمامك اعمل بها عملا شريفا نظيفا و إن كان بسيطا.. و إن كنت تود العمل في مكان آخر فاسع يا بني و الله يرزقك "
طمأنني قوله كثيرا .. تماما كما كانت كلمات نديم رحمه الله تبعث في نفسي الطمأنينة في سني السجن ...
قلت أخيرا :
" لكنني.. خرجت من السجن "
قال :
" نديم كان في السجن أيضا ، و لم أر في حياتي من هو أشرف منه و لا أحسن خلقا "
ابتسمت .. للتقدير و الاحترام اللذين يكنهما هذا الرجل لي.. و اللذين رفعا من معنوياتي المحطمة بعد كلمات دانة الجارحة ...
العم ابتسم أيضا و قال و هو يصافح يدي :
" أ نقول على بركة الله ؟؟ "
~ ~ ~ ~ ~ ~
" ماذا عنّي أنا ؟؟ تتركيني وحدي ؟؟ "
سألتُ دانة التي تقف أمام المرآة تجرّب ارتداء فستان السهرة الجديد ، الذي اشترته لارتدائه في الحفلة البسيطة ... يوم الغد
لم تكن تعيريني أي اهتمام.. و خلال الأيام الماضية عوملت معاملة جافة من قبلها و قبل سامر .. بتهمة الخيانة !
" دانة أحدّثك ! ألا تسمعين ؟؟ "
" ماذا تريدين يا رغد ؟ "
" لا أريد البقاء وحدي هنا "
" سامر معك "
قلت باستياء :
" لا أريد البقاء مع سامر بمفردنا "
الآن التفتت إلي و قالت :
" إنه خطيبك .. فإن كنت لا تثقين به فهذه مشكلتك ! "
شعرت بضعف شديد و قلة حيلة .. فوليد ، الشخص الذي كان يقف إلى جانبي و يتولى الدفاع عني قد اختفى.. و لابد لي من الرضوخ لقدري أخيرا...
خرجت من غرفتها و ذهبت إلى غرفتي، و من هناك اتصلت بوالدي ّ و طلبت منهما أن يعودا بأي وسيلة.. لأنني وحيدة و تعيسة جدا..
و يا ليتني لم أفعل ...
بعد ذلك ، جاء سامر إلى غرفتي يحمل علبة هدّية ما ...
كان يبتسم .. اقترب مني و حاول التحدث معي بلطف و كرر الاعتذار عما بدر منه تلك الليلة ، إلا أنني صددته بجفاء.
" وفر هداياك يا سامر .. فأنا لن أقتنع بفكرة الزواج بهذا الشكل مطلقا.."
غضب سامر و تحوّل لطفه إلى خشونة و نعومة حديثه إلى قسوة..
قال :
" حين يعود والداي سيتم كل شيء "
قلت :
" حين يعود والداي سينتهي كل شيء "
سامر فقد السيطرة على أعصابه و زمجر بعنف :
" كل هذا من أجل وليد ؟؟ "
ونظرت إليه نظرة تحد ٍ لم يستطع تجاهلها..
أطبق علي بقسوة و قال :
" و إن تخليت ِ عني ، لن أسمح له بأخذك مطلقا .. أتفهمين ؟؟ "
" بل سأطلب منه أن يأتي لأخذي فأنا لن أعيش معك بمفردي "
" رغد لا تثيري جنوني.. لا تجعليني أؤذيك .. إنني أحبك .. أتفهمين معنى أحبك ؟ "
هتفت :
" لكني أحب وليد .. ألم تفهم بعد ؟؟ "
سامر دفع بي نحو السرير ، و تناول علبة الهدية و رطمها بالجدار بقوة ...
قال :
" ماذا تحبين فيه ؟ أخبريني ؟؟ ماذا رأيت منه جعل رأسك يدور هكذا ؟؟ "
ثم أقبل نحوي و هزني بعنف و هو يقول :
" أ تحبّين رجلا قاتلا ؟ مجرما ؟ سفاحا ؟؟ "
صرخت بفزع :
" ما الذي تقوله ؟؟ "
قال مندفعا :
" ألا تعلمين ؟؟ إنها الحقيقة أيتها المغفلة .. كنت ِ تظنين أنه سافر ليدرس في الخارج ..طوال تلك السنين .. أتعلمين أين كان وقتها ؟؟ أتعلمين ؟؟ "
كان الشرر يتطاير من عيني سامر .. المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها عينيه بهذا الشكل ... أصابني الروع من نظراته و كلماته ..
أتم جملته :
" لقد كان في السجن "
صعقت ، و لم أصدّق ... هززت رأسي تكذيبا ، إلا أن سامر هزني و قال بحدة :
" نعم في السجن .. ثمان سنوات قضاها مرميا في السجن مع المجرمين و القتلة.. ألا تصدقين ؟ اسألي والدي ّ .. أو اسأليه هو.. في السجن يا رغد.. السجن.. و قد أخفينا الأمر عنكما أنت و دانة لصغر سنكما "
صرخت غير مصدقة ..
" كلا .. كلا .. أنت تكذب ! "
قال بحدّة :
" تأكدّي بنفسك.. و لسوف تندمين على صرف مشاعرك على قاتل متوحّش "
دفعت سامر بعيدا عني و ركضت مسرعة نحو غرفة دانة ، التي كانت لا تزال أمام المرآة ...
" دانة "
هتفت بقوة أجبرتها على الالتفات إلي بشيء من الدهشة و الخوف ...
قلت :
" وليد .. وليد... "
فزعت دانة ، قالت :
" ما به ؟؟"
قلت :
" كان في السجن ؟؟ "
دانة تحملق بي في دهشة و عدم استيعاب .. صرخت ُ :
" وليد كان في السجن ؟؟ أخبريني ؟؟ "
ظهر سامر من خلفي فنظرت إليه دانة
قال :
" أخبريها فهي لا تصدقني "
دانة جالت ببصرها بيننا ثم قالت :
" أجل... لثمان سنين .. "
صرخت :
" لا ! "
قالت :
" بلى ، و بجريمة قتل "
" مستحيل ! "
لم أشأ أن أسمع .. أن أفهم .. أن أصدق .. أن أدرك ..
دارت بي الدنيا و تراقصت الأرض و تمايلت الجدران.. و أظلمت الأنوار.. و لم أشعر بنفسي إلا و سامر يمسكني بسرعة و يجلسني أرضا ...
بدأت الأنوار تضاء.. و بدأت أسمع نداءاتهما و أرى أعينهما القلقة حولي.. و أحس بأيديهما الممسكة بي ...
" رغد حبيبتي تماسكي "
" رغد ماذا جرى لك ؟؟ "
" ابقي مسترخية "
" اسم الله يحفظك "
حينما وعيت تماما وجدت نفسي ممدة على الأرضة و رأسي في حضن سامر و يدي بين يدي دانة ... و كنت أشعر ببلل الدموع الجارية على وجنتي...
قال سامر :
" أ أنت بخير ؟ "
أغمضت عيني بمرارة و تركت المجال لدموعي لتتدفق كيفما شاءت...
قالت دانة :
" رغد ... "
فتحت عيني و حاولت أن أتكلم، و عجزت إلا عن إصدار أنات متلاحقة... لا معنى لها و لا تفسير..
ساعدني الاثنان على النهوض و التوجه إلى غرفتي حيث استلقيت على سريري.. و جلس الاثنان قربي.. سامر يمسح على رأسي و دانة تشد على يدي...
قالت :
" لا بأس عليك.. كانت صدمة بالنسبة لي أنا أيضا "
تحشرج صوتي في حنجرتي ثم انطلق ناطقا :
" لماذا أخفيتم عني ؟؟ "
دانة نظرت إلى سامر.. كأنها تنقل السؤال إليه..
نظرت إلى سامر فرأيت وجهه متجهما حزينا...
" لماذا ؟ "
سامر حار في أمره .. و بعثر أنظاره فيما حولي ثم قال :
" كنتما صغيرتين .. ثم .. لم نشأ تقليب المواجع بعد خروجه .. "
" لا أصدق .. لا أصدٌق.. لا يمكن.. "
و انفجرت في بكاء أبكى دانة.. و كاد يبكي سامر أيضا..
قلت مخاطبة دانة :
" لماذا فعل ذلك ؟؟ "
و أيضا أحالت السؤال إلى سامر ..
قلت مخاطبة سامر :
" لماذا ؟؟ "
هذه المرّة سامر دقق النظر إلي .. نظرات عميقة غريبة ، ثم قال :
" ألا تعرفين ؟؟ "
" أنا ؟؟ "
سامر قال :
" لا نعرف الحقيقة بالضبط، لكن ... "
" لكن ماذا ؟؟ "
تردد سامر ثم قال :
" إنه يخفي سرا .. "
صمت ثوان ثم قال :
" سر على ما يبدو .. له علاقة بـ ... "
و تراجع عن إتمام جملته..
" بماذا ؟؟ "
سألت ، فظل ينظر إلي بتمعن .. و كأنه يشير إلي !
" بي أنا ؟؟!! "
و لم ينف كلامي ، فسألته دانة باستغراب :
" و ما علاقة رغد بالأمر ؟؟ "
سامر تردد و من ثم قال بنبرة غير الواثق من كلامه :
" لا أدري .. القضية غامضة .. و حزام الزي المدرسي الذي كانت رغد ترتديه ذلك اليوم – وهي نائمة في سيارة وليد - .. وجد للغرابة في مسرح الجريمة قرب القتيل مباشرة ! "
ما إن أتم سامر جملته .. حتى تهدّم في رأسي سد الذكريات فجأة .. و تدفقت شلالات الذكرى المفزعة .. و انتفضت و شهقت ثم هتفت بغتة :
" عمّار !!؟؟ "
الاثنان نظرا إلي بتعجب ..
جلست فجأة و وضعت يدي الاثنتين على صدري فاتحة عيني و فاغرة في ّ بذهول ما بعده ذهول ...
" رغد ؟؟ "
ناداني سامر ، فالتفت إليه .. ثم إلى دانة .. ثم إلى سامر فدانة بشكل تثير الشكوك ..
عاد سامر يقول :
" رغد ..؟؟ "
صرخت :
" لا "
" رغد .. هل رأيت شيئا ؟؟ "
صرخت بفزع :
" لا "
قال :
" أتذكرين شيئا ؟؟ "
" لا .. لا كلا .. "
و جذبت دانة نحوي و وضعت رأسي في حضنها و لففت ذراعي ّ حولها و أنا أصرخ بجنون :
" كلا .. كلا .. وليد.. وليد .. "
حتى غشي علي ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
في نفس اليوم ، و الذي عادت فيه السيدة ليندا من المستشفى ، عقدنا قراننا أنا و أروى ..
العائلة كانت سعيدة و مبتهجة ... و قد صنعت أروى كعكتين لذيذتين و عشاء مميزا، احتفالا بالمناسبة..
لم يشاركنا الحفلة الصغيرة سوى سيدة واحدة هي صديقة للسيدة ليندا ، و ابناها اللذين شهدا على العقد..
بالنسبة لي ، كان حدثا غريبا و أشبه بالوهم..نعم الوهم..لقد كنت هناك ، لكنني لم أكن.. و انتظرت أن أصحو من هذا الحلم الغريب.. إلا أنني لم أصح ُ ..
بعد تناولنا العشاء.. أوحت إلينا السيدة ليندا بأن نخرج للتجوّل في المزرعة.. أنا كنت أتتصبب عرقا و في غاية الخجل.. و لا أجرؤ على النظر نحو أروى.. و لا أعرف كيف هي حالتها و تعبيراتها!
خرجنا معا إلى المزرعة، و سرنا صامتين لا يلتفت أحدنا إلى الآخر..
قطعنا شوطا طويلا في السير.. و كان الجو باردا فسمعت صوت كفّي أروى يحتكان ببعضهما.. و هنا التفت و نظرت إليها لأول مرّة مذ فارقتها البارحة ..
قلت بتلعثم :
" أتشعرين بالبرد؟؟ "
أروى ابتسمت و نظرت للأسفل و قالت :
" قليلا "
" أتودين أن .. نعود ؟ "
رفعت نظرها إلي و قالت :
" لا.. "
هربت أنا بنظري إلى الأشجار و أنا أتنحنح و ألمس عنقي بيدي.. و أشعر بالحر !
حقيقة أنا لا أعرف ما أقول و لا كيف أتصرّف !
و لا حتى كيف أفكّر ! و اسمعوا ما قلت :
" هذه الأغصان بحاجة إلى ترتيب ! "
و أنا أشير إلى الشجرة التي كنت أنظر إليها..
أروى قالت :
" نعم "
" سوف أقوم بتنظيمها غدا "
" نعم "
لا أزال أحدق في الشجرة.. كأنني أفتش عن المفردات بين أوراقها !
كيف يجب أن يتصرّف رجل عقد قرانه من فتاة قبل قليل ؟؟
أنا لا أعرف بالضبط، فهي تجربتي الأولى، و لكن بالتأكيد.. ليس التحديق في أغصان الأشجار و أوراقها !
" وليد "
نادتني أروى.. فاقشعر جسدي خجلا ، التفت إليها بحرج .. و أنا أمسح قطيرات العرق المتجمعة على جبيني :
" نعم ؟ "
قال بخجل :
" هل أنت .. سعيد بارتباطنا ؟؟ "
تسارع نبض قلبي.. توترت كثيرا إلا أنني قلت أخيرا :
" نعم، و .. أتمنى أن تكوني أنت سعيدة ! "
ابتسمت هي مومئة إيجابا..
ثم قالت و هي تعبث بأصابعها بارتباك :
" أنا.. معجبة بك "
أنا سكنت تماما عن أي حركة أو كلام.. تماما كسيارة نفذ وقودها كليا ! صامت جامد في مكاني بينما الأشجار تتحرك و الأوراق تتمايل !
الآن رفعت أروى بصرها إلي بابتسامة خجولة لتستشف ردة فعلي...
تسللت من بين شفتي هذه الكلمة :
" معجبة بي .. أنا ؟؟ "
ضحكت أروى ضحكة خفيفة و هي تقول :
" نعم أنت ! "
قلت متأتئا متلعثما :
" أأ لكن .. أنا.. شخص بسيط أعني.. إنني .. خريج سجون و .. "
لم أتم ، فقد نفذت الحروف التي كانت مخزنة على لساني فجأة !
أروى قالت :
" أعرف، و لا يهمني ذلك .. "
تبادلنا الآن نظرات عميقة .. أمددتني بطاقة أحلت عقدة لساني ..
قلت :
" أروى .. ألا يهمك أن تعرفي .. لم دخلت السجن ؟؟ "
أروى هزّت رأسها سلبا..
لكنني قلت :
" يجب أن تعرفي... "
ثم قلت :
" دخلت السجن لأنني ... ... قتلت حيوانا "
دهشت أروى و ارتفع حاجباها الأشقرين للأعلى :
" ماذا ؟؟ "
قلت ، و قد تبدّلت تعبيرات وجهي من الخجل و التوتر ، إلى الجدية و الغضب :
" نعم حيوان.. حيوان بشري.. قذر.. كان يجب أن يموت ... "
~ ~ ~ ~ ~ ~
لا أزال مضطجعة على سريري أذرف الدموع الحزينة المريرة... و أعيد في رأسي تقليب الذكريات... و قد مضت ساعات و أنا على هذه الحال
كلما دخل سامر أو دانة هتفت :
" دعوني وحدي ... دعوني وحدي ... "
فالصاعقة لم تكن بالشيء الهيّن ...
أعوذ بذاكرتي للوراء.. ذكريات مغبرة غير واضحة ، لا أستطيع سبر غورها و كشف غموضها و فهم أسرارها...
مبهمة الملامح .. لا تتضح لي صورتها كما ينبغي ... فأبعدها بسرعة و أجبر رأسي على التفكير بشؤون أخرى ...
مساء الغد.. ستغادر دانة مع عريسها بعيدا.. و أظل أنا و سامر.. في الشقة وحدنا.. و مئات من الشحنات المتنافرة تتضارب فيما بيننا...
تموت الفكرة في رأسي .. تحت أقدام أفكار أقوى .. في وجه إعصار الذكريات التعيسة المشؤومة التي عشتها قبل تسع سنين ...
أتخيل نفسي و أنا في تلك السيارة .. أصرخ .. و أصرخ .. و أهتف و استنجد و أستغيث ... و ما من معين..
ما من شيء .. إلا صفعات متتالية على وجهي.. و كف تمتد إلى وجهي و تكتم أنفي و فمي مانعة إياي من الاستغاثة.. و يد تربط أطرافي الأربعة بذلك الحزام الطويل... ثم ترميني عند المدوسة .. تحت المقعد..
بح صوتي من الصراخ ... كنت وحيدة .. لا أحد من أهلي حولي.. و لا من الناس ... في طريق بري مخيف موحش ...بعيدا عن أدنى معاني الأمان و الطمأنينة
و أسمعه يقول :
" سيأتي وليد إليك فاخرسي "
أحاول أن أتحرر من القيد.. أحاول الركل و الرفس.. و العض.. و كل شيء .. دون جدوى.. فقد كنت أضعف و أوهن من أن أتغلب على ذلك الوحش القذر...
حينما ظهر وليد أخيرا .. فتح لي الباب ..
قفزت من السيارة راكضة مسرعة نحو وليد.. تعلقّت بعنقه.. أردت أن أحتمي داخل صدره.. أردته أن يبعدني بسرعة عن ذلك المكان.. أن يطير بي عاليا .. إلى حيث لا تصلني يد مؤذ و لا نظراته...
وليد...
آه وليد...
وليد...
أخذت أبكي بقوّة.. بكل ما أوتي جسدي المنهك المصعوق من قوة ..
سمعتني دانة فوافتني إلى الغرفة قلقة .. اقتربت مني و هي تراني في حالة انهيار لا مثيل لها.. أبكي دما لا دموعا ...
" رغد.. أرجوك يكفي ! إلى متى ستظلين هكذا ؟؟ لم لا تنامين فقد انتصف الليل "
" لماذا لم تخبروني بالحقيقة ؟ لماذا كذبتم علي ؟ أعيدوا وليد إلي .. أريد وليد .. أريد وليد "
دانة أمسكت بوجهي في حيرة و اضطراب ، و قالت :
" رغد ! ما الذي تهذين به ؟ أ عاودتك الحمى من جديد ؟؟ "
قلت و أنا أنظر إليها بعمق و تشتت في آن معا في تخبط و ضياع و تيه :
" لم أعتقد أنه مات .. رأيته يهوي أرضا.. لم أفهم ما حصل .. لكن وليد ضربه بسببي أنا .. أنا .. أنا "
و انهرت باكية بحدة على صدرها ...
دانة كانت تحاول إبعادي عنها ليتسنى لها النظر إلى وجهي ، و قراءة ما ارتسم عليه، إلا أنني كنت أدفن رأسي في صدرها بإصرار...
" رغد .. ما الذي تقولينه ؟؟ "
صرّحت :
" لم أفهم ذلك .. لم أع ِ شيئا.. لا أذكر ماذا فعل بي .. لكنه ضربني كثيرا .. و ربطني بالحزام .. "
" عمّ تتحدثين يا رغد بالله عليك أفصحي ما تقولين ؟؟ "
رفعت رأسي أخيرا و نظرت إليها و انفجرت قائلة :
" عمار .. الحقير .. الجبان .. اللعين .. القذر .. اختطفني و حبسني في السيارة.. وليد جاء لإنقاذي و ضربه بالصخرة .. أفهمت الآن؟؟ أفهمت ؟؟ أفهمت ؟؟ "
لم أزد على ما قلت حرفا واحدا، إذ أنني انهرت كليا .. كما انهارت دانة الجالسة قربي.. و عندما طلبت مني سرد الأحداث ، قلت :
" لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد أن أتذكر..، وليد .. أريد وليد.. أريد العودة إلى وليد"
~ ~ ~ ~ ~
الآن.. و في هذا الصباح الجميل .. و تحت أشعة هذه الشمس الجديدة ، أشعر بأنني شخص آخر .. رجل ولد من جديد...
ابتداء من هذا اليوم، دخلت عالما جديدا.. و ودعت عالمي الماضي .. للأبد
أنا اليوم ، وليد .. المزارع البسيط الذي يعمل مع خطيبته و عائلتها في مزرعة صغيرة .. في مدينة بعيدة عن مدينته و أصله و أهله ..
الحياة الماضية قد انتهت ، لا رغد و لا حب و لا جنون.. لا ألم و لا عذاب و لا معاناة.. و لا حرب...
الليلة ، ستدخل رغد عالم المتزوجين، و تصبح زوجة لأخي ، و أقطع آخر خيط أمل في استعادتها ذات يوم..
الذكرى الحزينة أجبرتها على مغادرة رأسي ،، فأنا لا أريد لدمعة واحدة أن تسيل من عيني على ما فات.. و لأعش حياتي الجديدة كما قدّر الله لها أن تكون ...
تخرج أروى من المنزل.. مقبلة نحوي ، تحمل صينية تحوي طعاما...
كنت أقف في الساحة أتنفس الصعداء و أشم رائحة الزهور الفواحة ...
إنه مكان يستحق أن يضحي المرء بأي شيء من أجل العيش فيه ...
" صباح الخير .. وليد "
تبتسم لي و يتورد خداها خجلا.. فيجعلها كلوحة طبيعية بديعة من صنع الإله..
أدقق النظر إليها .. فاكتشف أنها آية في الجمال.. جمال لم ألحظه مسبقا و لم أكن لأعره اهتماما ..
ملونة مثل الزهور.. و خصلات شعرها الذهبي تتراقص مع تيارات الهواء.. لامعة مثل أشعة الشمس..
سبحان الله ..
أحقا ..هذه الحسناء هي زوجة مستقبلي ؟
تقبل إلي و تقول :
" أعددت فطورا خاصا بنا "
ابتسم ، و أقول :
" شكرا .. "
ثم نجلس على البساط المفروش في الساحة، و ننعم بفطور شهي لذيذ.. فمخطوبتي هذه ماهرة جدا في الطهو !
ميزة أخرى تجعلني أشعر بالزهو ...
إضافة إلى كونها طيبة القلب مثل والديها و خالها..
و أكرر في نفسي :
" الحمد لله "
لقد لعبت الأقدار دورها الدرامي معي.. و حين ألقت بي في السجن لثمان سنين ، عرّفتني على رجل عظيم، أصبحت في نهاية المطاف زوجا لابنته !
أظن أن على المرء أن يشكر الله في جميع الأحوال و لا يتذمّر من شيء ، فهو لا يعلم ما الحكمة من وراء بعض الأحداث التي يفرضها عليه القدر ...
سبحان الله
أكثر ما شدّني في الأمر ، هو أنها اعترفت لي البارحة بإعجابها بي !
برغم كل عيوبي و مساوئي، و رغم جهلها بالكثير عن ماضي و أصلي .. إلا أنها ببساطة قالت :
" أنا معجبة بك ! "
اعتقد أن لهذه الجملة تأثيرها الخاص ... و خصوصا على رجل يسمعها للمرة الأولى في حياته من لسان فتاة !
تحدّثنا عن أمور كثيرة... فوجدتها حلوة المعشر و راقية الأسلوب، و اكتشفت أنها أنهت دراستها الثانوية و درست في أحد المعاهد المحلية أيضا ...
قلت :
" كان حلمي أن أدرس في الجامعة ! "
" أي مجال ؟؟ "
" الإدارة و الاقتصاد ، كنت أطمح لامتهان إدارة الأعمال .. تخيّلت نفسي رجل أعمال مرموق ! "
و ضحكت ُ بسخرية من نفسي ...
قالت :
" و هل تخلّيت عن هذا الحلم ؟؟ "
قلت بأسف :
" بل هو من تخلّى عنّي .. "
ابتسمت أروى و قالت :
" إذن فطارده ! و أثبت له جدارتك ! "
" كيف ؟؟ "
قالت :
" لم لا تلتحق بمعهد إداري محلي ؟ أتعرف.. زوج السيدة التي كانت معنا البارحة يدير أحد المعاهد و قد ييسر أمورك بتوصية من أمي ! "
بدت لكي فكرة وهمية ... كالبخار.. إلا أن أروى تحدثت بجد أكبر و جعلتني انظر للفكرة بعين الاعتبار.. و أنميها في رأسي...
~ ~ ~ ~ ~
أتتني دانة و أنا لا أزال على سريري و قالت :
" أحضر سامر الفطور... ألن تشاركينا ؟؟ "
لم أجب عليها، فانسحبت من الغرفة..
بعد قليل ، طرق الباب مجددا و دخل سامر هذه المرة ، و أغلق الباب من بعده ..
أقبل نحوي حتى صار جواري مباشرة ، و قال بصوت حنون أجش :
" رغد ... هل ستبقين حبيسة الغرفة هكذا ؟؟ "
و لم أجبه ...
جلس سامر على السرير و مد يده نحو رأسي، و أخذ يمسح على شعري بحنان...
" رغد .. بالله عليك .. "
لكنني لم أتفاعل معه ..
أدار وجهي نحو وجهه و أجبرني على النظر إليه ...
نظراتنا كانت عميقة ذات معنى ...
" رغد .. أنا أتعذب برؤيتك هكذا ... أرجوك .. كفى "
و لم أجب ..
قال :
" أ تحبينه لهذا الحد ؟؟ "
لما سمعت جملته هذه لم أتمالك نفسي.. و بدأت بالبكاء ...
سامر أخذ يمسح الدموع الفائضة من محجري... بلطف و عطف .. ثم قال :
" أنا .. لا أرضى عليك بالحزن .. لا أقبل أن أكون سبب تعاسة أحب مخلوقة إلى قلبي ... "
اعترى نظراتي الآن بعض الاهتمام ..
تابع هو حديثه :
" رغد .. سوف .. اتصل به الآن ، و اطلب منه الحضور .. لأخذك معه "
ذهلت ، و فتحت جفوني لأقصى حد .. غير مصدقة لما التقطته أذناي ...
قال :
" لا تقلقي.. فأنا لن أجبرك على الزواج مني.. و بمجرد عودة والدي ّ .. سأطلق سراحك ... "
شهقت ...
نطقت :
" سامر .. !! "
سامر ابتسم ابتسامة واهنة حزينة .. ثم قرب رأسي من شفتيه، و قبّل جبيني قبلة دافئة طويلة ...
بعد ذلك قال :
" سأتصل به في الحال..، هيا.. فدانة تنتظرك على المائدة .. "
و قام و غادر الغرفة ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
ما كدت أنتهي من وجبة فطوري اللذيذة الطويلة ، حتى أقبلت السيدة ليندا تستدعيني ...
" وليد يا بني ، اتصال لك .. "
تبادلت و أروى نظرة سريعة ، ثم وقفت و الاضطراب يعتريني...
قلت :
" من ؟؟ "
" شقيقك "
و زاد اضطرابي ...
أسرعت إلى الهاتف و التقطت السماعة و تحدثت بقلق :
" نعم ؟ هنا وليد "
" مرحبا يا وليد.. كيف أنت ؟ "
" بخير .. "
و صمت قليلا.. كنت متوجسا من سماع شيء سيئ ، فقد كان اتصالنا الأخير قبل ليلة فقط ...
" ما الأمر سامر ؟؟ "
" لا تقلق ! إنني فقط أريد أن أؤكد عليك الحضور الليلة .. "
فكرت في نفسي .. و من قال إنني أود الحضور ؟؟؟ لم يكن ينقصني إلا أن أشهد يوم تزف فيه رغد.. حبيبتي الغالية.. معشوقة قلبي الصغيرة إلى أخي .. و أنا واقف أتفرج و أبار ك؟؟
" آسف، لن يمكنني الحضور "
" لماذا ؟؟ "
" لدي ارتباطات أخرى.. كما أنني متعب و لا طاقة لي بالسفر.."
" و دانة ؟؟ ألا تريد رؤيتها قبل رحيلها ؟؟ "
لم أجد الجواب المناسب...
ثم قلت :
" إنها لن تتشرف بوجودي على أية حال "
" سأجعلها تحدّثك بنفسها "
ثم ناول الهاتف إلى دانة .. فسمعت صوتها يحييني و يسأل عن أحوالي ، ثم تقول :
" تعال يا وليد.. يجب أن تحضر عرسي "
" آسف ..لا أريد إحراجك أمام زوجك و أهله.. بانتسابك إلى رجل مجرم و خريج سجون "
هنا بدأت دانة بالبكاء و هي تقول :
" أرجوك وليد.. سامحني.."
لم أعقّب .. قالت :
" سأكون أتعس عروس ما لم تحضر .. من أجلي "
" ستكونين أسعد بدون حضوري "
عادت تبكي ثم قالت :
" حسنا ، ليس من أجلي .. بل من أجل رغد "
و شعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ .. أ أحضر من أجل زف حبيبتي إلى عريسها ؟؟
إنني إن حضرت سأرتكب جريمة ثانية ، لا محالة ...
زمجرت :
" لن أحضر "
" و لا من أجلها ؟؟ "
" و لا من أجل أي كان ... "
" لكنها تريدك أن تحضر .. وليد .. أرجوك "
" يكفي يا دانة .. "
" وليد.. رغد مريضة "
هنا.. تفجر قلبي نابضا بعنف و توترت معدتي و تصلبت عضلاتي و اندفعت أنفاسي بقوة و هتفت :
" ما بها رغد ؟؟ "
إلا أن دانة لم تجب .. بل أجهشت بكاء..
و يظهر أن سامر تناول السماعة من يدها
كنت أهتف :
" دانة اخبريني ما بها رغد ؟؟ تكلمي ؟؟ "
جاءني صوت سامر قائلا :
" لا تقلق ، إنها متوترة بعض الشيء "
هتفت بقوة :
" سامر اصدقني القول .. ما بها رغد ؟؟ "
" لا تخشى شيئا يا وليد.. "
" إياكما أن يكون أحدكما قد أذاها في شيء أو أجبرها على شيء ؟؟ "
" لا ، شقيقك ليس وغدا ليجبر فتاة على الزواج منه، و هي كارهة "
كأن كتلة كبيرة من الثلج وقعت فوق رأسي.. أفقدتني السيطرة على لساني و على أطرافي بل و عيني كذلك...
كأنه أغشى علي ... كأني فقدت الوعي و الإدراك .. كأنني سبحت في فضاء رحيب من الوهم و الخيال ...
إنني فعلا على وشك إفراغ كل ما ابتلعته على الفطور خارجا من معدتي... و من فمي ...
و الشيء الذي خرج من فمي كان صوتا مبحوحا ضعيفا مخنوقا سائلا :
" ألن .. تتزوجا الليلة ؟ "
سامر لم يجب مباشرة ، ثم قال :
" إلا إذا عادت العروس و غيّرت رأيها قبل المساء ... "
بعدما أنهيت المكالمة تهالكت على معقد قريب.. و أغمضت عيني ..
كنت أريد فقط أن أتنفس .. كان صدري يتحرك بقوة ، تماما كقوة اندفاع الدم خارجا من قلبي ...
رغد لن تتزوج الليلة ...
رغد لا تزال طليقة ..
رغد لا تزال بين يدي ...
و شعرت بشيء يلامس يدي ...
فتحت عيني و لساني يكاد يصرخ :
" رغد ! "
فوقعت عيناي على أروى .. واقفة أمامي مباشرة تلامس يدي .. و تقول بابتسامة ممزوجة ببعض القلق :
" ما الأمر وليد ؟؟ "
كدت أضحك !
نعم إنني أريد الآن أن أضحك لسخرية القدر مني !
بل بدأت بالضحك فعلا ...
و أروى ضحكت لضحكي .. و هي تجهل ما حقائق الأمور ...
قالت :
" ما يضحكك وليد ؟ أضحكني معك ؟؟ "
حدّقت بها فرأيت ما لم أتمنى أن أراه ...
قلت :
" أختي دانة ستتزوّج الليلة .. "
اتسعت ابتسامتها و قالت :
" صحيح ؟ أين ؟ مبروك ! "
هززت رأسي ساخرا من حالي المضحك ، و قلت :
" حفلة صغيرة جدا ، في الشقة التي يسكنون فيها.. و هي تريد مني الحضور "
اتسعت ابتسامتها أكثر و قالت مبتهجة :
" عظيم ! رائع ! أيمكنني الذهاب معك ؟؟ "